فصل: سنة خمس وأربعين وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة أربع وأربعين وخمسمائة:

.ذكر وفاة سيف الدين بن أتابك زنكي وبعض سيرته وملك أخيه قطب الدين:

في هذه السنة توفي سيف الدين غازي بن أتابك زنكي صاحب الموصل بها بمرض حاد، ولما اشتد مرضه أرسل إلى بغداد واستدعى أوحد الزمان، فحضر عنده، فرأى شدة مرضه، فعالجه فلم ينجع فيه الدواء، وتوفي أواخر جمادى الأجرة، وكانت ولايته ثلاث سنين وشهراَ وعشرين يوماً؛ وكان حسن الصورة والشباب، وكانت ولادته سنة خمسمائة، ودفن بالمدرسة التي بناها بالموصل، وخلف ولداً ذكراً، فرباه عمه نور الدين محمود، وأحسن تربيته، وزوجه ابنة أخيه قطب الدين مودود، فلم تطل أيامه وتوفي في عنفوان شبابه، فانقرض عقبه.
وكان كريماً شجاعاً عاقلاً، وكان يصنع لعسكره كل يوم طعاماً كثيراً مرتين بكرة وعشية، فأما الذي بكرة فيكون مائة رأس غنم جيدة، وهو أول من حمل على رأسه السنجق، وأمر الأجناد ألا يركبوا إلا بالسيف في أوساطهم والدبوس تحت ركبهم، فلما فعل ذلك اقتدى به أصحاب الأطراف، بني المدرسة الأتابكية العتيقة بالموصل، وهي من أحسن المدارس، ووقفها على الفقهاء الحنفية والشافعية، وبنى رباطاً للصوفية بالموصل أيضاً على باب المشرعة، ولم تطلأيامه ليفعل ما في نفسه من الخير، وكان عظيم الهمة، ومن جملة كرمه أنه قصده شهاب الدين الحيص بيص وامتدحه بقصيدته التي أولها:
إلام يراك المجد في زي شاعر ** وقد نحلت شوقاً فروع المنابر

فوصله بألف دينار عيناً سوى الخلع وغيرها.
ولما توفي سيف الدين غازي كان أخوه قطب الدين مقيماً بالموصل، فاتفق جمال الدين الوزير وزين الدين علي أمير الجيش على تمليكه، فأحضروه، واستحلفوه وحلفوا له، وأركبوه إلى دار السلطنة، وزين الدين في ركابه، وأطاعه جميع بلاد أخيه سيف الدين كالموصل والجزيرة والشام.
ولما ملك تزوج الخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش التي كان قد تزوجها أخوه سيف الدين وتوفي قبل الدخول بها، وهي أم أولاد قطب الدين: سيف الدين وعز الدين، وغيرهما من أولاده.

.ذكر استيلاء نور الدين على سنجار:

لما ملك قطب الدين مودود الموصل بعد أخيه سيف الدين غازي كان أخوه الأكبر نور الدين محمود بالشام، وله حلب وحماة، فكاتبه جماعة من الأمراء وطلبوه، وفيمن كاتبه المقدم عبد الملك والد شمس الدين محمد، وكان حينئذ مسحفظاً بسنجار، فأرسل إليه يستدعيه ليتسلم سنجار، فسار جريدة في سبعين فارساً من أمراء دولته، فوصل إلى ماكسين في نفر يسير قد سبق أصحابه.
وكان يوماً شديد المطر، فلم يعرفهم الذي يحفظ الباب، فأخبر الشحنة أن نفر من التركمان المجندين قد دخلوا البلد، فلم يستتم كلامه حتى دخل نور الدين الدار على الشحنة، فقام إليه وقبل يده، ولحق به باقي أصحابه، ثم سار إلى سنجار، فوصلها وليس معه سوى ركابي وسلاح دار، ونزل بظاهر البلد.
وأرسل إلى المقدم يعلمه بوصوله، فرآه الرسول وقد سار إلى الموصل وترك ولده شمس الدين محمداً بالقلعة، فأعلمه بمسير والده إلى الموصل، وأقام من لحق أباه بالطريق، فأعلمه بوصول نور الدين، فعاد إلى سنجار فسلمها إليه، فدخلها نور الدين، وأرسل إلى فخر الدين قرا أرسلان، صاحب الحصن، يستدعيه إليه لمودة كانت بينهما، فوصل إليه في عسكره؛ فلما سمع أتابك قطب الدين، وجمال الدين وزين الدين بالموصل بذلك جمعوا عساكرهم وساروا نحو سنجار، فوصلوا إلى تل يعفر، وترددت الرسل بينهم بعد أن كانوا عازمين على قصده بسنجار، فقال لهم جمال الدين: ليس من الرأي محاقته وقتاله، فإننا نحن قد عظمنا محله عند السلطان وما هو بصدده من الغزاة، وجعلنا أنفسنا دونه، وهو يظهر للفرنج تعظيماً وأنه تبعنا، ولا يزال يقول لهم: إن كنتم كما يجب، وإلا سلمت البلاد إلى صاحب الموصل وحينئذ يفعل بكم ويصنع، فإذا لقيناه، فأن هزمناه طمع السلطان فينا، ويقول: هذا الذي كانوا يعظمونه ويحتمون به أضعف منهم، وقد هزموه، وإن هو هزمنا طمع فيه الفرنج، ويقولون إن الذي كان يحتمي بهم أضعف منه، وقد هزمهم، وبالجملة فهو ابن أتابك الكبير.
وأشار بالصلح، وسار هو إليه فاصطلح وسلم سنجار إلى أخيه قطب الدين، وسلم مدينة حمص والرحبة بأرض الشام وبقي الشام له، وديار الجزيرة لأخيه، واتفقا، وعاد نور الدين إلى الشام، وأخذ معه ما كان قد ادخره أبوه أتابك الشهيد فيها من الخزائن وكانت كثيرة جداً.

.ذكر وفاة الحافظ وولاية الظافر ووزارة ابن السلار:

في هذه الستة، في جمادى الآخرة، توفي الحافظ لدين الله عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر. وكانت خلافته عشرين ستة إلا خمسة أشهر، وعمره نحو من سبع وسبعين سنة، ولم يزل في جميعها محكوماً عليه، يحكم عليه وزراؤه، حتى إنه جعل أبنه حسناً وزيراً وولي عهده فحكم عليه واستبد بالأمر دونه، وقتل كثيراً من أمراء دولته وصادر كثيراً، فلما رأى الحافظ ذلك سقاه سماً فمات، وقد ذكرناه.
ولم يل الأمر من العلويين المصريين من أبوه غير خليفة غير الحافظ العاضد، وسيرد ذكر نسب العاضد؛ وولي الخلافة بعده في مصر ابنه الظافر بأمر الله أبو منصور إسماعيل بن عبد المجيد الحافظ، واستوزر ابن مصال، فبقي أربعين يوماً يدبر الأمور، فقصده العادل بن السلار من ثغر الأسكندرية، ونازعه في الوزارة، وكان ابن مصال قد خرج من القاهرة في طلب بعض المفسدين من السودان، فحلفه العادل بالقاهرة وصار وزيراً.
وسير عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي في عسكر وهو ربيب العادل، إلى ابن مصال، فظفر به وقتله، وعاد إلى القاهرة، واستقر العادل وتمكن، ولم يكن للخليفة معه حكم.
وأما سبب وصول عباس إلى مصر فإن جده يحيى أخرج أباه أبا الفتوح من المهدية، فلما توفي يحيى وولي بعده بلاد إفريقية ابنه علي بن يحيى بن تميم بن يحيى صاحب إفريقية، أخرج أخاه أبا الفتوح بن يحيى والد عباس من إفريقية سنة تسع وخمسمائة، فسار إلى الديار المصرية ومعه زوجته بلارة ابنة القاسم بن تميم بن المعز بن باديس، وولده عباس هذا وهو صغير يرضع؛ ونزل أبو الفتوح بالأسكندرية فأرم وأقام بها مدة يسيرة، وتوفي وتزوجت بعده امرأته بلارة بالعدل بن السلار.
وشب العباس، وتقدم عند الحافظ، حتى ولي الوزارة بعد العادل؛ فأن العادل قتل في المحرم سنة ثمان وأربعين. قيل: وضع عليه عباس من قتله، فلما قتل ولي الوزارة بعده، وتمكن فيها، وكان جلداً حازماً، ومع هذا أخذ الفرنج في أيامه عسقلان، واشتد وهن الدولة بذلك؛ وفي أيامه أخذ نور الدين محمود دمشق من مجير الدين آبق، وصار الأمر بعد هذا إلى إن أخذت مصر منهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر عود جماعة من الأمراء إلى العراق:

في هذه السنة، في رجب، عاد البقش كون خر والطرنطاي وابن دبيس ومعهم ملكشاه ابن السلطان محمود إلى العراق، وراسلوا الخليفة في الخطبة لملكشاه، فلم يلتفت إليهم وجمع العساكر وحصن بغداد، وأرسل إلى السلطان مسعود يعرفه الحال، فوعده بالوصول إلى بغداد ولم يحضر.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من وصول عمه السلطان سنجر إلى الريفي معنى خاص بك، فلما وصل إلى الري سار إليه السلطان مسعود، ولقيه واسترضاه، فرضي عنه؛ فلما علم البقش بمراسلة الخليفة إلى مسعود نهب النهروان، وقبض على الأمير علي بن دبيس في رمضان، فلما علم الطرنطاي بذلك هرب إلى النعمانية.
ووصل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف شوال، ورحل البقش كون خر من النهروان، وأطلق علي بن دبيس، فلما وصل السلطان إلى بغداد قصده علي، وألقى بنفسه بين يديه واعتذر، فرضي عنه. وذكر بعض المؤرخين هذه الحادثة سنة أربع وأربعين، وذكر أيضاً مثلها سنة ثلاث وأربعين، فظنهما حادثتين، وأنا أظنها واحدة ولكنا تبعناه في ذلك ونبهنا عليه.

.ذكر قتل البرنس صاحب أنطاكية وهزيمة الفرنج:

في هذه السنة غزا نور الدين محمود بن زنكي بلاد الفرنج من ناحية أنطاكية، وقصد حصن حارم، وهو للفرنج، فحصره وخرب ربضه، ونهب سواده، ثم رحل إلى حصن أنب فحصره أيضاً، فاجتمع الفرنج مع البرنس صاحب أنطاكية وحارم وتلك الأعمال، وساروا إلى نور الين ليرحلوه عن إنب، فلقيهم واقتتلوا قتالاً عظيماً.
وباشر نور الدين القتال ذلك اليوم، فانهزم الفرنج أقبح هزيمة، وقتل منهم جمع كثير، وأسر مثلهم.
وكان ممن قتل البرنس صاحب أنطاكية، وكان عاتياً من عتاة الفرنج وعظيماً من عظمائهم، ولما قتل البرنس ملك بعده ابنه بيمند، وهو طفل، فتزوجت أمه ببرنس أخر ليدبر البلد إلى أن يكبر أبنها، وأقام معها بأنطاكية.
ثم إن نور الدين غزاهم غزوة أخرى، فاجتمعوا ولقوه، فهزمهم وقتل فيهم وأسر، وكان فيمن أسر البرنس الثاني زوج أم بيمند، فتمكن حينئذ بيمند بأنطاكية؛ وأكثر الشعراء بمديح نور الدين وتهنئته بهذا الظفر، فإن قتل البرنس كان عظيماً عند الطائفتين؛ وممن قال فيه القيسراني في قصيدته المشهورة التي أولها:
هذي العزائم لا ما تدعي القضب ** وذي المكارم لا ما قالت الكتب

وهذه الهمم االلاتي متى خطبت ** تعثرت خلفها الأشعار والخطب

صافحت ياابن عماد الدين ذروتها ** براحة للمساعي دونها تعب

مازال جدك يبني كل شاهقة ** حتى بنى قبة أوتادها الشهب

أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة ** فؤاد رومية الكبرى لها يجب

ضربت كبشهم منها بقاصمة ** أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب

طهرت أرض الأعادي من دمائهم ** طهارة كل سيف عندها جنب

.ذكر الخلف بين صاحب صقلية وملك الروم:

في هذه السنة اختلف رجار الفرنجي صاحب صقلية وملك القسطنطينية، وجرى بينهما حروب كثيرة دامت عدة سنين، فاشتغل بعضهم ببعض عن المسلمين، ولولا ذلك لملك رجار جميع بلاد إفريقية.
وكان القتال بينهم براً وبحراً، والظفر في جميع ذلك لصاحب صقلية، حتى إن أسطوله، في بعض السنين، وصل إلى مدينة القسطنطينية، ودخل فم الميناء، وأخذوا عدة شوان من الروم، وأسروا جمعاً منهم؛ ورمى الفرنج طاقات قصر الملك بالنشاب، وكان الذي يفعل هذا بالروم والمسلمين جرجي وزير صاحب صقلية، فمرض عدة أمراض منها البواسير والحصى، ومات سنة ست وأربعين وخمسمائة، فسكنت الفتنة، واستراح الناس من شره وفساده، ولم يكن عند صاحب صقلية من يقوم مقامه بعده.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة زلزلت الأرض زلزلة عظيمة، فقيل أن جبلاً مقابل حلوان ساخ في الأرض.
وفيها ولي أبو المظفر يحيى بن هبيرة وزارة الخليفة المقتفي لأمر الله، وكان قبل ذلك صاحب ديوان الزمام، وظهر له كفاية عظيمة عندما نزل العساكر بظاهر بغداد، وحسن قيام في ردهم، فرغب الخليفة فيه، فاستوزره يوم الأربعاء رابع ربيع الآخر سنة أربع وأربعين، وكان القمر على تربيع زحل، فقيل له: لو أخرت لبس الخلعة لهذه التربيعات؟ فقال: وأي سعادة أكبر من وزارة الخليفة؟ ولبسها ذلك اليوم.
وفيها، في المحرم، توفي قاضي القضاة علي بن الحسين الزينبي، وولي القضاء عماد الدين أبو الحسن علي بن أحمد الدامغاني.
وفيها، في المحرم، رخصت الأسعار بالعراق، وكثرت الخيرات، وخرج أهل السواد إلى قراهم.
وفيها توفي الأمير نظر أمير الحاج، وكان قد سار بالحاج إلى الحلة، فمرض واشتد مرضه، واستخلف على الحاج قايماز الأرجواني، وعاد إلى بغداد مريضاً، فتوفي في ذي القعدة، وكان خصياً عاقلاً خيراً له معروف كثير وصدقات وافرة.
وفيها توفي أحمد بن نظام الملك الذي كان وزير السلطان محمد والمسترشد بالله.
وفيها توفي علي بن رافع بن خليفة الشيباني، وهو من أعيان خراسان، وله مائة وسبع سنين شمسية.
ومات الإمام مسعود الصوابي في المحرم منها وفيها توفي معين الدين أنر نائب أبق صاحب دمشق، وهو كان الحاكم والأمر إليه، وكان أبق صورة أمير لا معنى تحتها.
وفيها توفي القاضي أحمد بن محمد بن الحسين الأرجاني أبو بكر قاضي تستر، وله شعر حسن فمنه قوله:
ولما بلوت الناس أطلب عندهم ** أخاً ثقة عند اعتراض الشدائد

تطلعت في حالي رخاء وشدة ** وناديت في الأحياء: هل من مساعد

فلم أر فيما ساءني غير شامت ** ولم أر فيما سرني غير حاسد

تمتعتما ياناظري بنظرة ** وأوردتما قلبي أمر الموارد

أعيني كفا عن فؤادي فإنه ** من البغي سعي اثنين في قتل واحد

وفيها توفي أبو عبد الله عيسى بن هبة الله بن عيسى البزاز، وكان ظريفاً، وله شعر حسن؛ كتب إليه صديق له رقعة وزاد في خطابه فأجابه:
قد زدتني في الخطاب حتى ** خشيت نقصاً من الزيادة

فاجعل خطابي خطاب مثلي ** ولا تغير علي عاده ثم دخلت:

.سنة خمس وأربعين وخمسمائة:

.ذكر أخذ العرب الحجاج:

في هذه السنة، رابع عشر المحرم، خرج العرب، زعب ومن انضم إليها، على الحجاج بالغرابي، بين مكة والمدينة، فأخذوهم ولم يسلم منهم إلا القليل.
وكان سبب ذلك أن نظر أمير الحاج لما عاد من الحلة على ما ذكرناه وسار على الحاج قايماز الأرجواني، وكان حدثاً غراً، سار بهم إلى مكة، فلما رأى أمير مكة قايماز استصغره وطمع في الحاج، وتلطف قايماز الحال معه إلى أن عادوا.
فلما سار عن مكة سمع باجتماع العرب، فقال للحاج: المصلحة أنا لا نمضي إلى المدينة؛ وضج العجم وتهدده بالشكوى منه إلى السلطان سنجر، فقال لهم: فأعطوا العرب مالاً نستكف به شرهم! فامتنعوا من ذلك، فسار بهم إلى الغرابي، وهو منزل يخرج إليه من مضيق بين جبلين، فوقفوا على فم مضيق، وقاتلهم قايماز ومن معه، فلما رأى عجزه أخذ لنفسه أماناً، وظفروا بالحجاج، وغنموا أموالهم وجميع ما عندهم، وتفرق الناس في البر، وهلك منهم خلق كثير لا يحصون كثرة، ولم يسلم إلا القليل، فوصل بعضهم إلى المدينة وتحملوا منها إلى البلاد، وأقام بعضهم مع العرب حتى توصل إلى البلاد.
ثم إن الله تعالى انتصر للحاج من زعب فلم يزالوا في نقص وذلة، ولقد رأيت شاباً منهم بالمدينة سنة ست وسبعين وخمسمائة، وجرى بيني وبينه مفاوضة قلت له فيها: إنني والله كنت أميل إليك حتى سمعت أنك من زعب فنفرت وخفت شرك. فقال: ولم؟ فقلت: بسبب أخذكم الحاج. فقال لي: أنل لم أدرك ذلك الوقت، وكيف رأيت الله صنع بنا؟ والله ما أفلحنا، ولا نجحنا، قل العدد وطمع العدو فينا.

.ذكر فتح حصن فاميا:

في هذه السنة فتح نور الدين محمود ابن الشهيد زنكي حصن فاميا من الفرنج وهو مجاور شيزر وحماة على تل عال من أحصن القلاع وأمنعها، فسار إليه نور الدين وحصره وبه الفرنج وقاتلهم وضيق على من به منهم، فاجتمع من الشام من الفرنج وساروا نحوه ليرحلوه عنهم فلم يصلوا إلا وقد ملكه وملأه ذخائر وسلاحاً ورجالاً وجميع ما يحتاج إليه، فلما بلغه مسير الفرنج إليه، رحل عنه وقد فرغ من أمر الحصن وسار إليهم يطلبهم، فحين رأوا أن الحصن قد ملك وقوة عزم نور الدين على لقائهم عدلوا عن طريقه ودخلوا بلادهم وراسلوه في المهادنة وعاد سالماً مظفراً ومدحه الشعراء وذكروا هذا الفتح، فمن ذلك قول ابن الرومي من قصيدة أولها:
أسنى الممالك ما أطلت منارها ** وجعلت مرهفة الدسار دسارها

وأحق من ملك البلاد وأهلها ** رؤف تكنف عدله أقطارها

ومنها في وصف الحصن:
أدركت ثأرك في البغاة وكنت يا ** مختار أمة أحمد مختارها

طابت نجومك فوقها ولربما ** باتت تنافثها النجوم سرارها

عارية الزمن المعير شمالها ** منك المعيرة واسترد معارها

أمست مع الشعري العبور وأصبحت ** شعراء تستغلي الفحول شوارها

وهي طويلة.

.ذكر حصر الفرنج قرطبة ورحيلهم عنها:

في هذه السنة سار السليطين، وهو الأذوفونش، وهو ملك طليطلة وأعمالها، وهو من ملوك الجلالقة، نوع من الفرنج، في أربعين ألف فارس إلى مدينة قرطبة، فحصرها، وهي في ضعف وغلاء، فبلغ الخبر إلى عبد المؤمن وهو في مراكش، فجهز عسكراً كثيراً، وجعل مقدمهم أبا ذكرياء يحيى بن يرموز ونفذهم إلى قرطبة، فلما قربوا منها لم يقدروا أن يلقوا عسكر السليطين في الوطاء وأرادوا الاجتماع بأهل قرطبة ليمنعوها لخطر العاقبة بعد القتال، فسلكوا الجبال الوعرة والمضايق المتشعبة، فساروا نحو خمسة وعشرين يوماً في الوعر في مسافة أربعة أيام في السهل، فوصلوا إلى جبل مطل على قرطبة، فلما رآهم السليطين وتححق أمرهم رحل عن قرطبة.
وكان فيها القائد أبو الغمرالسائبمن ولد القائد ابن غلبون، وهو من أبطال أهل الأندلس وأمرائها فلما رحل الفرنج خرج منها لوقته وصعد إلى ابن يرموز، وقال له: انزلوا عاجلاً وادخلوا البلد؛ ففعلوا، وباتوا فيها، فلما أصبحوا من الغد رأوا عسكر السليطين على رأس الجبل الذي كان فيه عسكر عبد المؤمن، فقال لهم أبو الغمر: هذا الذي خفته عليكم لأني علمت أن السليطين ما أقلع إلا طالباً لكم، فإن من الموضع الذي كان فيه إلى الجبل طريقاً سهلة، ولو لحقكم هناك لنال مراده منكم ومن قرطبة، فلما رأى السليطين أنهم قد فاتوه علم أنه لم يبق له طمع في قرطبة، فرحل عائداً إلى بلاده، وكان حصره لقرطبة ثلاثة أشهر، والله أعلم.

.ذكر ملك الغورية هراة:

في هذه السنة سار ملك الغور الحسن بن الحسين من بلاد الغور إلى هراة فحصرها، وكان أهلها قد كاتبوه، وطلبوا أن يسلموا إليه البلد هرباً من ظلم الأتراك لهم، وزوال هيبة السلطنة عنهم، فامتنع أهل هراة عليه ثلاثة أيام، ثم خرجوا إليه وسلموا البلد وأطاعوه، فأحسن إليهم، وأفاض عليهم النعم، وغمرهم بالعدل، وأظهر طاعة السلطان سنجر والقيام على الوفاء له والأنقياد إليه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة أمر علاء الدين محمود بن مسعود، الغالب على أمر طريثيث التي بيد الإسماعيلية، بإقامة الخطبة للخليفة، ولبس السواد، ففعل الخطيب ذلك، فثار به عمه وأقاربه ومن وافقهم، وقاتلوه، وكسروا المنبر وقتلوا الخطيب.
وكان فعل علاء الدين هذا لأن أباه كان مسلماً، فلما تغلب الإسماعيلية على طريثيث أظهر موافقتهم، وأبطن اعتقاد الشريعة، وكان يناظر على مذهب الشافعي، وازداد تقدماً بطريثيث وجرت أمورها بإرادته؛ فلما حضره الموت أوصى أن يغسله فقيه شافعي، وأوصى إلى ابنه علاء الدين، إن أمكنه أن يعيد فيها إظهار شريعة الإسلام فعل. فلما رأى من نفسه قوة فعله فلم يتم له.
وفيها كثر المرض بالعراق لا سيما بغداد، وكثر الموت أيضاً فيها، ففارقها السلطان مسعود.
وفيها توفي الأمير علي بن دبيس بن صدقة صاحب الحلة بأسدباد، واتهم طبيبه محمد بن صالح بالمواطأة عليه، فمات الطبيب بعده بقريب.وفيها استوزر عبد المؤمن صاحب بلاد المغرب أبا جعفر بن أبي أحمد الأندلسي، وكان ماسوراً عنده، فوصف له بالعقل وجودة الكتابة، فأخرجه من الحبس واستوزره، وهو أول وزير كان للموحدين.
وفي هذه السنة، في المحرم، جلس يوسف الدمشقي مدرساً في النظامية ببغداد، وكان جلوسه بغير أمر الخليفة، فمنع، يوم الجمعة، من دخول الجامع، فصلى في جامع السلطان ومنع من التدريس، فتقدم السلطان مسعود إلى الشيخ أبي النجيب بأن يدرس فيها، فامتنع بغير أمر الخليفة، فاستخرج السلطان إذن الخليفة في ذلك، فدرس منتصف المحرم من السنة.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن علي مهران الفقيه الشافعي، تفقه على الهراسي، وولي قضاء نصيبين، ثم ترك القضاء وتزهد فأقام بجزيرة ابن عمر، ثم انتقل إلى جبل ببلد الحصن، في زاوية، وكان له كرامات ظاهرة.
وفيها مات الحسن بن ذي النون بن أبي القاسم بن أبي الحسن المسعري أبو المفاخر النيسابوري، سمع الحديث، سمع الحديث الكثير، وكان فقيهاً دائم الأشغال يعظ الناس، وكان مما ينشد:
مات الكرام وولوا وانقضوا ومضوا ** ومات من بعدهم تلك الكرامات

وخلفوني في قوم ذوي سفه ** لو أبصروا طيف ضيف في الكرى ماتوا ثم دخلت:

.سنة ست وأربعين وخمسمائة:

.ذكر انهزام نور الدين من جوسلين وأسر جوسلين بعد ذلك:

في هذه السنة جمع نور الدين محمود عسكره وسار إلى بلاد جوسلين الفرنجي، وهي شمالي حلبن منها تل باشر، وعين تاب، وإعزاز وغيرها، وعزم على محاصرتها وأخذها، وكان جوسلين لعنه الله، فارس الفرنج غير مدافع، قد جمع الشجاعة والرأي، فلما علم بذلك جمع الفرنج فأكثر، وسار نحو نور الدين فالتقوا واقتتلوا، فانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر جمع كثير، وكان في جملة من أسر سلاح دار نور الدين، فأخذه جوسلين، ومعه سلاح نور الدين، فسيره إلى الملك مسعود بن قلج أرسلان، صاحب قونية، وأقصرا، وقال له: هذا سلاح زوج ابنتك، وسيأتيك بعده ما هو أعظم منه.
فلما علم نور الدين الحال عظم عليه ذلك، وأعمل الحيلة على جوسلين، وهجر الراحة ليأخذ بثأره، وأحضر جماعة من أمراء التركمان، وبذل لهم الرغائب إن هم ظفروا بجوسلين وسلموه إليه إما قتيلاً أو أسيراً لأنه علم أنه متى قصده بنفسه احتمى بجموعه وحصونه، فجعل التركمان عليه العيون،فخرج متصيداً، فلحقت به طائفة منهم وظفروا به فأخذوه أسيراً، فصانعهم على مال يؤديه إليهم، فأجابوه إلى إطلاقه إذا حضر المال، فأرسل في إحضاره،فمضى بعضهم إلى أبو بكر بن الداية، نائب نور الدين بحلب، فأعلمه الحال، فسير عسكراً معه، فكسبوا أولئك التركمان وجوسلين معهم، فأخذوه أسيراً وأحضروه عنده، وكان أسره من أعظم الفتوح لأنه كان شيطاناً عاتياً، شديداً على المسلمين، قاسي القلب، وأصيبت النصرانية كافة بأسره.
ولما أسر سار نور الدين إلى قلاعه فملكها، وهي تل باشر، وعين تاب، وإعزاز، وتل خالد، وقورس، والراوندان،وبرج الرصاص، وحصن البارة، وكفرسود، وكفرلاثا، ودلوك، ومرعش، ونهر الجوز، وغير ذلك من أعماله، في مدة يسيرة يرد تفصيلها.
وكان نور الدين كلما فتح منها حصناً نقل إليه من كل ما تحتاج إليه الحصون، خوفاً من نكسة تلحق بالمسلمين من الفرنج، فتكون بلادهم غير محتاجة إلى ما يمنعها من العدو؛ ومدحه الشعراء، فممن قال فيه القيسراني من قصيدة في ذكر جوسلين:
كما أهدت الأقدار للقمص أسره ** وأسعد قرن من حواه لك اسر

طغى وبغى عدواً على غلوائه ** فأوبقه الكفران عدواه والكفر

وأمست عزاز كاسمها بك عزة ** تشق على النسرين لو أنها وكر

فسر واملإ الدنيا ضياء وبهجة، ** فبالأفق الداجي إلى ذا السنة قفر

كأني بهذا العزم لا فل حده ** وأقصاه بالأقصى وقد قضي الأمر

وقد أصبح البيت المقدس طاهراً ** وليس سوى جاري الماء له طهر